نادلات المقاهي .. معاناة وحُزن وهروب "اضطراري" من الواقع

ثمة فئات من المجتمع لا ينتبه الكثيرون إلى ظروف عيشها، وكيف يقضي من ينتمون إليها أوقات حزنهم إذا حزنوا وأوقات فرحهم إذا فرحوا، يعيش أغلبهم على هامش الاهتمامات، ولا يُلتفت إليهم إلا لحاجة، يُعانون في صمت ويكافحون في صمت ليضمنوا أسباب البقاء ومسببات الإبقاء على حظهم وحظ من يعيلون في الحياة.
بين النادلات
من هذه الفئات نادلات المقاهي، الشعبية منها على وجه الخصوص، نساء من أعمار مختلفة، لا تتوقفن عن عن الحركة داخل "مقرات عملهن"، تستفسرن عن طلبات مرتادي المقاهي وتلبين حاجياتهم، وتصبرن على أذى الكثيرين منهم.
هسبريس تنقّلت بين عدد من المقاهي بنواحي أكادير، والتقت بنادلات واستمعت إليهن، لتنقل لكم جزء من حياة نساء وجدن أنفسهن أمام الفقر والحاجة وجها لوجه، فكان عليهن التأقلم مع أجواء "المعركة"، منهن من تواصل "القتال" ومنهن من انهزمن فاستسلمن ومنهن من غيرن المسار إلى وجهة أخرى.
فرح مؤجَّل
لحظات قبل آذان صلاة عصر يوم عيد الفطر، الشوارع الرئيسية تعج بالمواطنين المحتفلين بالعيد، نساء بملابس جديدة وبحلة أنيقة، منهن من يمسكن بأطفالهن فرحات مبتهجات، ابتسامات وضحكات تملأ أحد الشوارع، لكن في جانب آخر منه، هناك قصص أخرى تحكي أشياء تُغطي عليها ابتسامة "مضطر"، لا مكان فيها للفرح أو على الأقل فرح مؤجل إلى وقت لاحق قد يأتي وقد لا يأتي.
على رصيف شارع يبدو محوريا في حركة السير، تقوم "سميرة" بترتيب كراسي مقهى، ومسح طاولاتها، استعدادا لاستقبال الزبناء في اليوم الأول بعد رمضان، تعود إلى "الكونطوار"، للحديث مع زميل العمل، تبدو من حركاتها أنها منهكة ومن طريقة حديثها أنها تفكر في شيء آخر غير العمل.
تقول "سميرة" إنها لم تعش منذ سنتين أجواء عيد الفطر، بسبب العمل في المقاهي، لأنها لم تجد غيره على حد قولها، لتغطي مصاريف تدريس ابنها ذي السبع سنوات، الذي تركته مع عائلتها بنواحي الصويرة بعد طلاقها من زواج اعتبرته خطأ، تحكي عن ظروف العمل وتصفها بالقاسية، وعن الأجرة وتصفها بالهزيلة، من دون تقاعد طبعا ولا ضمان اجتماعي ولا تغطية صحية، وتجيب على أسئلة هسبريس بتلقائية وبلا تردد وكأنها كانت تنتظر فقط من يبادرها الحديث عن الجانب الذي لا يُرى من "سميرة" النادلة المبتسمة في وجه الجميع.
العيد مجرد ساعات راحة
تركنا "سميرة" تواصل تلبية مشروبات مرتادي المقهى الذي تعمل به، وانتقلنا إلى مقهى آخر بشارع قريب، حيث قصة أخرى من قصص المعاناة، تمثلها "فاطمة الزهراء" ابنة أحد مداشر شيشاوة، التي وجدت نفسها في شوارع أكادير عقب خلافات عائلية على حد قولها.
تتذكّر "فاطمة الزهراء" أيامها الأولى في سوق الشغل، وكيف أن كل من تعامل معها اعتبرها تصلح لكل شيء يخطر على البال مقابل دراهم معدودة، وكيف أنها لم تستطع مقاومة "قدرها" لأنها كانت صغيرة وغريبة في مدينة كبيرة، وتتذكر كيف سقطت ضحية سيدة وعدتها بالمساعدة، قبل أن تسلمها قطعة طرية لمن لا يفهم في الدنيا إلا لحظات متعة زائلها يشتريها بماله ويُحصّنها بعلاقاته بل ويجعل لها حرسا وخدما.
العيد عن "فاطمة الزهراء"، مجرد ساعات راحة من العمل، ومجرد مكالمة هاتفية مع الوالدة والاخت الصغرى، تزينها لحظات فرحة مصطنعة رفقة زميلات المهنة اللواتي يُشاركنها السكن في غرفة ببيت أشبه بالفندق.
اليوم "فاطمة الزهراء" أو "فاتي" كما ينادي عليها رواد المقهى، تقول إنها وصلت إلى نقطة اللاعودة ولا تستطيع الرجوع إلى الخلف، لأن أسرتها الصغيرة باتت في حاجة إلى ما ترسل إليها عن طريق "قريب بعيد" يعمل سائق شاحنة، ولأنها احترفت عملها فلم تعد تتقن غيره وستصبر على أيامها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
نادلة و"ساعات إضافية"
في مقهى ثالث بحي من أحياء أكادير، تعمل "نورا" كما سمت نفسها، لا يُرى عليها أثر شقاء، شابة في مقتبل العمر تتحرك بخفة ونشاط، تضحك مع هذا وتلاعب هذا، وتنادي بصوت مرتفع على ذاك، ربما من كثرة "إدمانها" على العمل وفقدها الثقة في المجتمع تعتبر كل من نظر إليها مشروع زبون "ساعات إضافية" تقوم بها اضطرارا بعد الدوام لتتعاون بها على "الزمان"، لذلك لا تظن من يكلّمها إلا باحثا عن مشروب أو عن حصة إضافية.
بعد أن اطمأنت لسبب الحديث معها، طلبت من زميلة لها متابعة "الطلبيات" وتخبرنا أنها جديدة على "الحرفة" وأن الرغبة في تحصيل المال هي من دفعتها إلى العمل في مقهى رغم أنها تعرف نظرة المجتمع إلى نادلة في مقهى، "عشت لحظات عصيبة داخل أسرتي لم استطع متابعة دراستي بسبب فقر أبي وتخلي أخي الأكبر عنا، وكنت أحتاج إلى المال لألبس كصديقاتي وأشتري ما أريد وما نحتاجه في البيت"، هكذا شرحت "نورا" أسباب عملها، قبل أن تشعل سيجارة وتطفئها بطلب منا.
تضيف "نورا" أنها بعد كل هذا الوقت، لم تحصّل مالا ولم تجد ما كانت تحلم به، وأنها توجد وسط متاهة لم تعد تعرف أولها من آخرها، وأنها لو أتيح لها من جديد أن تختار بين العمل في مقهى وبين البقاء في بيت أسرتها رغم قساوة الظروف لاختارت البقاء في أحضان الأسرة، بعد ما ذاقته من مرارة حوّلتها إلى جماد لا تحس لا بعيد ولا بفرحة ولا بمشاعر خارج الحزن المغلف بالابتسامة التي يتطلبها العمل في رأيها.
عاملات لا كائنات هامشية
"سميرة" و"فاطمة الزهراء" و"نورا" ثلاث أسماء تختزل ثلاث قصص من الهروب من واقع فيه مساحات من المعاناة قد تضيق وقد تتسع، لكنها يقينا موجودة وتتحمل في الدولة والمجتمع المسؤولية.
النادلات الثلاث عيّنة من فئات تشترك معنا رقعة الوطن، فلا بأس أن تشغل حيزا من اهتمامات من يدبرون شؤونه، على الرغم من كل ما قد يُقال عنهن فإن بدواخلهن شيء من الإنسان المطلوب احترام آدميته، والعمل على إعادة إدماج من تشاء الإدماج والإرجاع إلى فضاء الأسرة لمن تشاء، أو في كل الأحوال تحسين شروط عملهن ومواكبتهن كعاملات لهن حقوق لا ككائنات تُعامل على أن الهامش يليق بهن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة للموقع المتاح للخدمات ©2014 monaimabdel.blogspot.com | سياسة الخصوصية

Design By : Monaim Abde